حاز قرار الرئيس محمد مرسي الأخير والقاضي بإحالة قادة عسكريين كبار إلى التقاعد على إشادة باعتباره خطوة كبيرة على طريق إنهاء عسكرة الدولة المصرية. يمثل هذا القرار بالنسبة لبعض المتفائلين نصراً للثورة على أعدائها داخل المؤسسة العسكرية. لا شك أن هذا الفعل سيكون تاريخياً وبأنه ربما يكون المقدمة لعهد جديد في العلاقات المدنية- العسكرية في مصر. في الوقت نفسه، ورغم الإثارة التي تحملها ترجمة الأحداث الأخيرة كانقلاب مدني على حكام مصر العسكريين، فإن هناك مؤشرات أن ما حدث كان نتاج حركة بين الرتب العسكرية لتجنب مواجهة وشيكة مع القوى السياسية المدنية، ولإعادة النظر في دور الجيش في السياسة بطريقة تترك الحكم الذاتي للجيش ومصالحه طويلة الأمد مصانة لا تمس.
لا تزال الظروف التي أحاطت بقرارات مرسي ضبابية، ونحن بكل تأكيد نعلم تفاصيل جديدة كلما تكشف لنا شيء من الموقف. ورغم هذا، فإن المضمون الذي وقع فيه هذا الفعل كاشف بكل تأكيد. من الجدير بالذكر أن الحديث عن إضعاف قبضة الاخوان المسلمين على مؤسسة الرئاسة قد تزايد في الأسابيع الأخيرة، وخصوصاً في ضوء الدعوات لمظاهرات حاشدة في الرابع والعشرين من أغسطس ضد ما أسماه البعض "حكم الإخوان". وقد تزعم هذه الدعوات أشخاص معروفون بقربهم من الجيش، ومن أشهرهم مذيع أحد البرامج الحوارية، توفيق عكاشة، ونائب مجلس الشعب السابق، مصطفى بكري، والذي انتهز كل فرصة في السابق لدعم، وتبرير، وترويج مواقف المجلس العسكري الأعلى طوال فترة ما بعد مبارك.
تتناقل المنتديات على الانترنت دعوات التظاهر التي تضمنت تهديدات بحرق مكاتب الإخوان المسلمين في عموم مصر. النائب السابق، محمود أبو حامد، وهو أحد أكبر المؤيدين للتظاهرات، ذهب إلى حد القول إن تظاهرات يوم الرابع والعشرين من أغسطس لن تكون مظاهرات مليونية فحسب، ولكنها ستكون ثورة حقيقية مشابهة لثورة الخامس والعشرين من يناير في العام الماضي. ومن المثير للاهتمام أن الدعوات لإسقاط "حكم الاخوان" تتطابق مع التصريح العلني الذي أدلى به وزير الدفاع (السابق الآن)، حسين طنطاوي، من أن الجيش لن يسمح "لفصيل واحد" أن يحكم مصر، في إشارة واضحة ضد سيطرة الإخوان المسلمين على المشهد السياسي.
تشير هذه الاتجاهات بالترافق مع التطورات التي لحقتها، إلى أن قادة الجيش ربما كانوا يحثون حلفاءهم، والبعض من المؤثرين على الرأي العام، إضافة إلى القنوات الإعلامية الصديقة على الترويج لصورة الدعم الشعبي لانقلاب على الاخوان المسلمين. بل إن هناك أدلة على أن بعض قادة الجيش حاولوا علناً أن يقللوا من قيمة أداء مرسي في أعين الناس في محاولة لإعلاء الأصوات المؤيدة لمسيرة يوم الرابع والعشرين من أغسطس. فعلى سبيل المثال، حين كان مرسي يشارك في القمة الإفريقية في أثيوبيا في منتصف يوليو، انسحبت قوات الشرطة من مواقعها الأمنية في المستشفيات العامة في ظروف غامضة. مهد هذا الانسحاب الطريق لهجمات من قبل البلطجية، الأمر الذي استدعى هجمات مضادة من قبل العاملين في المستشفيات والذين أضرهم غياب الأمن، ناهيك عن النقد الشعبي لمرسي بسبب "فشله" في تحقيق وعده باستعادة الأمن في الشارع المصري.
بينما يبدو من السهل للكثير من المحللين أن ينكروا هذه الأنماط كدليل آخر على انعدام الكفاءة الحكومية، مصحوبة بالخداع المثير الذي يقوم به توفيق عكاشة، فإنه يبدو أن بعض القادة الأمنيين قد أخذوا هذه التطورات على محمل الجد. ففي الأسبوع الماضي، أوقفت السلطات المصرية بث محطة عكاشة وبدأت تحقيقاً معه بخصوص مزاعم عن "تحريض المشاهدين على قتل الرئيس محمد مرسي ودعم انقلاب عسكري". وفي يوم السبت، تمت مصادرة أعداد من جريدة "الدستور" بعد أن نشرت الجريدة حلقات معنونة بتحذيرات من أسلمة الدولة على أيدي الاخوان المسلمين، وبكلمات أخرى، دعت لانقلاب على مرسي. أوردت الحلقة الأخيرة من هذه المقالات على الصفحة الأولى ما يلي:
"إن إنقاذ مصر من الهلاك القادم لن يكون إلا باتحاد الجيش والشعب، وتكوين جبهة إنقاذ وطنية من القيادات الوطنية والجيش إعلاماً لدولة مدنية صريحة بحماية عسكرية مطابقاة تماماً للنظام التركي. إن لم يحدث هذا خلال الأيام القليلة القادمة، سوف تسقط مصر وتنهار وسوف نندم على الأيام المتبقية قبل إعلان الدستور. خروج الشعب في التظاهر السلمي أمر حتمي وواجب وطني حتى يستجيب الجيش ويعلن تأييده للشعب".
تشير هذه التطورات إلى أن التصاعد الحالي في الدعوات الشعبية لانقلاب عسكري، يؤشر إلى ميل من جانب بعض أعضاء المجلس العسكري الأعلى للتحضير لخطوات لإضعاف رئاسة مرسي، إن لم نقل تهميشها بالكامل. هذا التوجه ليس مفاجئاً خصوصاً أنه كان من الواضح للعيان وبشكل محرج أن قادة المجلس العسكري، وخصوصاً طنطاوي، لم يكونوا مرتاحين لفكرة إظهار أي علامة من علامات الخضوع لسلطة مدنية. لم يكن طنطاوي حريصاً فقط على إظهار نفسه علناً وكأنه الرئيس الثاني للبلاد، ولكن الأخبار أكدت أنه رفض حضور إجتماعات مجلس الوزراء برئاسة رئيس الوزراء المعين، هشام قنديل، ليتجنب أي تلميح أنه يخضع لرئيس مدني. ومن المحتمل أن طنطاوي شعر مع آخرين أنه مجبر على إضعاف رئاسة مرسي بعد إحساسه أن الرئيس المنتخب بدأ يحظى بقبول من قادة بارزين في الجيش.، وأنهم يقبلون أن ينقلوا المزيد من السلطات إليه أكثر مما يرغب به الحرس القديم في الجيش. وكان الرد اللاحق لقادة آخرين في الجيش هو المساعدة على إخراج قادتهم المتهورين خوفاً من أن إلتزام رؤسائهم بإطالة أمد الصراع مع الاخوان المسلمين قد يقود الجيش إلى مأزق مع القوى الشعبية المعبأة ضد الجيش، ويضعف إلى حد كبير قبضة الجيش على امتيازاته السياسية والاقتصادية التى بناها منذ زمن طويل. لذلك، كان من غير المفاجئ أن نعلم من مصادر داخل القصر الجمهوري أن كلا من طنطاوي، وسامي عنان، رئيس الأركان السابق، قد تفاجآ حين علما بخبر إقالتهما. بتعبير آخر، فقد شاهدنا أن ما حدث في 12 أغسطس لم يكن انقلاباً بالمعنى الصحيح، ولكنه انقلاب استباقي هدفه تجنب مواجهة سياسية وفعلية على الأرض بين الجيش والاخوان المسلمين، وربما تجنب موجة جديدة من التعبئة الجماهيرية المضادة للمجلس العسكري.
إن الطريقة التي وقعت فيها هذه الأحداث تشير إلى أنه من غير المتوقع أن يكون مرسي، أو حتى الاخوان المسلمون، قد تمكنوا من القيام بها بمفردهم بدون دعم، أو حتى قيادة، من قبل بعض المسؤولين البارزين في الجيش. أولا، فقد قام اللواء، محمد العصار، وهو عضو في المجلس العسكري وتمت مكافأته في التغيير الأخير، بإبلاغ الصحافة على الفور بعد الاعلان عن قرار مرسي أن الرئيس قام في الواقع بالتشاور مع قادة الجيش قبل إحالة طنطاوي وعنان للتقاعد. إنه من الصعب حقيقة تخيل أن مسؤولي التلفزيون الرسمي قد وافقوا على إذاعة أخبار مثيرة كهذه بدون بعض التأكيدات أن بعض من يمسكون بزمام الأمور داخل الجيش موافقون عليها، وأنه لن تكون هناك عقوبات على أية أخطاء بهذا الخصوص. إضافة لهذا، فإن المخرج المشرف لطنطاوي وعنان، اللذين منحا وسامين عسكريين ومنصبي مستشاري الرئيس، يشير إلى أن يداً صديقة من الجيش كان لها ضلع في التأكد من أن قرار مرسي سيعطي رسالة للجميع أن قادة الجيش سيُعاملون باحترام وتوقير أمام الرأي العام، بغض النظر عن الخلافات السياسية. والأهم من هذا كله أن هذا المخرج الآمن يمكن أن يبرز محاولة من قبل بعض الضباط لإرسال رسالة واضحة ( تخدمهم شخصياً أيضاً) أن عهد الإهانة العلنية لقاد الجيش قد ولى، وأن محاسبتهم على أخطائهم لم تبدأ بعد، وربما لن تحدث أبداً.
هناك أسباب أخرى تدفعنا للاعتقاد أن التغييرات الأخيرة ليست جزءاً من انقلاب مدني خالص قاده مرسي. إن خطوة جريئة وشديدة الخطورة كهذه لا تتسق مع الأسلوب الحذر الذي أظهرته جماعة الإخوان المسلمين وقادتها خلال العام والنصف الماضيين، إضافة إلى ما يبدو من براغماتية الجماعة في إرضاء جنرالات الجيش الذين طالما امتلكوا القدرة على عكس المكاسب السياسية للإخوان المسلمين. إنه من الصعب تخيل أن قرار مرسي بإقالة قادة الجيش قد تم بدون بعض التطمينات إلي أن الضباط الآخرين سيؤيدون هذا القرار ولن يقفوا في جانب قادتهم ضد الرئيس. في الحقيقة، فقبل إعلان التغييرات بأيام، اعترف مرسي ضمنياً باستقلال قادة الجيش في إدارة شؤونهم كما ورد في الاعلان الدستوري المكمل الصادر في السابع عشر من يونيو عن طريق تكليف طنطاوي بتغيير حمدي بدين، قائد الشرطة العسكرية، بدلا من أن يقوم بنفسه بهذا التغيير.
إن الطريقة التي تم بها التغيير تعكس ترجمة محافظة للإعلان الدستوري، خصوصا النقطة التي توجب على الرئيس أن يعود إلى الضباط فيما يخص التعيينات الرفيعة في الجيش. هذا التصرف من مرسي لا يمكن توقعه من شخص كان يعد لمواجهة شاملة مع المجلس العسكري. بل إنه يبين أنه حتى وقت قريب، كان مرسي لا يزال يلعب اللعبة التي وضع قواعدها المجلس العسكري، ولم تكن هناك إشارات إلى أنه كان في الواقع يخطط "للذهاب للحرب". يبدو أن التغيير الأهم الذي حدث في الثاني عشر من أغسطس هو أن المجلس العسكري لم يعد هو اللاعب الأوحد، كما أن الدعم لتغيير في القيادة في صفوف الجيش من قادة عسكريين كبار، مثل وزير الدفاع الجديد، عبد الفتاح السيسي، واللواء محمد العصار، بدا أكثر وضوحاً. هؤلاء المسؤولون، الذين تمت مكافأتهم في التغييرات اللاحقة، ربما كانوا متخوفين من أن طنطاوي وعنان قد عقدا العزم على جر الجيش إلى مواجهات أخرى مع الاخوان المسلمين، وعناصر أخرى مضادة للمجلس العسكري من خلال ترتيب محتمل لانقلاب عسكري.
إن مشهداً كهذا لن يطيل من عمر الدور المكلف والمفتقر للشعبية الذي يلعبه المجلس في حكم مصر في المرحلة الانتقالية فحسب، ولكنه يمكن أن يعرض للخطر مصالح المؤسسة العسكرية السياسية والاقتصادية بعيدة المدى. يمكن للانقلاب على مسؤولين مدنيين أن يقود إلى عزلة دولية، وربما علاقات متوترة مع واشنطن، والتي تستمر في توفير معونة عسكرية سنوية لمصر بمقدار ١،٣ بليون دولار أمريكي. إضافة لهذا، فإن الدخول في مواجهة مع التعبئة الشعبية يمكن أن يثير حزمة أسئلة غير مريحة عن مستقبل الامتيازات التي يحظى بها الجيش منذ أمد بعيد، هذا عدا عن موضوع انسجام المؤسسة وكرامتها فيما إذا عانى قادة المؤسسة من هزيمة مشابهة لما حدث في الحادي عشر من فبراير.
ما يزيد من هذه المخاوف هو أن صورة الجيش قد تأثرت بشدة بعد الهجمات الأخيرة من قبل مجموعات مسلحة على القوات المصرية في سيناء، فيما لا يزال الجيش منشغلاً بالكثير من المعارك التي لم تحسم بعد. ولهذا، فإن التحالف الذي قام بالانقلاب الاستباقي اختار أن ينسق الجيش بالتعاون مع مرسي في اتخاذ خطوات لتهميش هؤلاء القادة ومنع أية إحتمالية لتكثيف دور الجيش في الحياة السياسية. ورغم أنه يبقى من غير الواضح ما ستبرزه هذه التطورات حيث أن مستقبل مصر لا يزال عبارة عن صراع مستمر للتغيير الثوري، فإن بعض الملاحظات تستحق أن نوردها هنا.
أولا، أن نكرر واحداً من أهم الدروس التي تعلمناها من انتفاضة الأيام الثمانية عشر في العام الماضي، أن تغيير الأشخاص لا يعني تغييرات عميقة في المؤسسات. ببساطة، فما مر به الجيش من تغييرات داخلية ومن تسليم السلطات الرئاسية والتشريعية لمرسي على الورق لا يعني أن المؤسسة قد وافقت على التخلي عن إمتيازاتها الموجودة منذ أمد طويل. وهي تشمل السلطة الفرعية التي يمتلكها الجيش في تشكيل سياسة الدفاع والأمن القومي، إضافة إلى الاستقلال الاقتصادي والسياسي لعملياته، وميزانيته، وموارده الطائلة التي يجنيها من إمبراطوريته الاقتصادية بعيداً عن رقابة المؤسسات المدنية المنتخبة. في الحقيقة، فإن التنازلات الأخيرة التي قدمها الجيش للقادة المدنيين يمكن أن يكون هدفها حماية هذه الامتيازات وعدم التخلي عنها. بتعبير آخر، ربما يكون هناك طريق طويل أمامنا في محاولة فرض رقابة مدنية ذات معنى على المؤسسات العسكرية وقادتها.
ثانياً، إن الرقابة المدنية على الجيش هي واحدة من عقبات عديدة يواجهها مرسي في محاولة تأكيد سلطته على مؤسسات الدولة، والتي يمكن للعناصر المضادة للإصلاح أن تستمر في مقاومة الاشراف الديمقراطي والمحاسبة. على سبيل المثال، وخلافاً للإعتقاد الشعبي السائد، فإن الجيش ليس البيروقراطية الوحيدة التي انخرطت في عمليات جني أرباح بعيدة عن أعين المؤسسات المنتخبة. فالبيروقراطيات المصرية ملأى بتشكيلة متنوعة من صناذيق خاصة خارجة عن الموازنة، والتي تجني ما يقارب ١٠٠ بليون جنيه مصري سنوياً، أو ما يقارب عشرين بالمئة من الانفاق الحكومي الرسمي في العام المالي ٢٠١١/٢٠١٢. إن ما يعنيه هذا هو أن في داخل كل بيروقراطية، مدنية كانت أم عسكرية، يوجد "مجلس عسكري مصغر" متأهب لحماية استقلاله الاقتصادي، ومضاد للامتيازات الديمقراطية التي يحملها القادة المدنيون المنتخبون. وسنرى ما إذا كان مرسي سيختار المواجهة أو الاتفاق مع البيروقراطيات المتنفذة ذات الجذور الممتدة داخل مؤسسات الدولة.
أخيراً، فإن من أكثر هذه النقاط أهمية هو أن الصراع غير المحسوم بعد في مصر حول التغيير الثوري لا يمكن أن يتم تحجيمه لصراعات سياسية بين الجيش والاخوان المسلمين. وفيما تعد خطوة وضع الجيش تحت رقابة ومحاسبة يقوم بها مسؤولون مدنيون خطوة هامة تجاه تحقيق شعار "خبز، حرية، عدالة إجتماعية"، فغنه من المؤكد أن هذه الخطوة ليست كافية بحد ذاتها. بالنسبة لهؤلاء الذين يؤمنون أن ثورة الخامس والعشرين من يناير كانت دعوة لعقد إجتماعي أكثر إنسانية بين المصريين وحكامهم، ومطالبة بدولة متجاوبة مع الناس وعادلة يمكن لها أن تحقق مطالب الشعب، فإن المعركة الحقيقية تحتاج لوقت طويل لتصل إلى نهايتها.
[نشر المقال على موقع "جدلية" باللغة الإنكليزية، والطبعة الورقية من "إيجبت إندبندنت" وترجمه إلى العربية علي أديب]